مواعين السيدة - 3
بعد ذلك الحادث الغامض الذي اختفى على إثره "الملا راشد" ولم يترك أثراً وراءه، تناوب الطيبون من أهل الحي على كفالة السيدة إلا أن أحدهم لم يستطع إبقاءها في كنفه أكثر من يوم أو يومين كحد أقصى وإن كان ميسوراً فلأسبوع لا أكثر، فشراهتها كانت كفيلة بإفلاس أغنى أغنياء البلد فضلاً عن بسطاء حي "الذواودة"،،، وما كان يحدو أهل الحي للتخلص منها بأسرع وقت، واحد تلو الآخر، هو أنها وبالرغم من شراهتها ومن كل الذي تلتهمه، كانت لا تُخرج شيئا، لا سائل ولا جامد، لا شيء أبداً عدا عن أبخرة نتنة تخرجها مرة كل أسبوع، في أيام الجُمع عادةً،،، تلك الرائحة تجعل من رائحة الضربان عطر فرنسي أخاذ إذا ما قورنت بها... كانت وكأن معدتها الجبارة تصهر الطعام حتى يتبخر تماما،،، وهكذا كانت تستلقي على ظهرها وتتمرغ على الفراش وكأن بها شيء من مغص ثم تنقلب على بطنها وتبتسم،،، أهل الدار المساكين يفطنون إلى ما تنوي عليه فيتراكضون كلٌ إلى أقرب مخرج له،،، واحد من الباب وآخر من فتحة النافذة فيما تحاول النساء جاهدات سد فتحة الباب بخرق رطبة،،، الصرخات تتعالى في الحي من كل مكان منبهة إلى الكارثة القادمة،،، أصوات التكبير تنطلق من مأذنة مسجد الحي فيما أحدهم يصرخ "الصلاة جامعة ... الصلاة جامعة"،،، يجتمع أهل الحي في المسجد ويبتهلون،،، يدعون السماء لتنهي تلك المأساة،،، يصلون صلاة الآيات،،، يقرأون كل الكتب المقدسة،،، يدعون السماء لتعجيل ظهور "الملا راشد"،،، يبقون كذلك حتى المساء فلا يرجع "الملا راشد" ولا السماء تستجيب، فلأكثر من عشر سنين والسماء تعطيهم أُذناً صماء، أسبوع تلو الآخر،،، يعودون إلى منازلهم ينتظرون الجمعة القادمة لتعيد المأساة نفسها من جديد!!!
بعد خمس سنوات عذاب أخرى وبعد أن طفح الكيل وزاد الويل، كفر بعض الشباب المتحمس من أبناء حي "الذوادة" بالابتهالات الأسبوعية التي لم تنفعهم في شيء ولم تخلصهم من سطوة السيدة ولا من عذابات أبخرتها الأسبوعية المقرفة، فقرروا العمل على إخراج السيدة بالقوة من الحي مهما كلف الأمر وأقسموا على الالتزام بذلك فيما بينهم.
ذات بعد ظهيرة باردة وكئيبة من أيام كانون الثاني خرجوا بعصيهم وأحاطوا بها بالقرب من خباز الحي وصاحوا بها في صوت واحد:
- برع برع ما نبيچ .. برع برع ما نبيچ
تحمس لهم آخرون وخرجوا معهم فيما يشبه الثورة،،، عشرات الرجال والنساء خرجوا من كل أزقة الحي كلٌ يحدوه أمل للخلاص من عذابات السيدة وأبخرتها،،، هتاف الثورة الوليدة "برع برع ما نبيچ .. برع برع ما نبيچ" أنطلق من كل مكان عدا مآذن المساجد التي التزمت صمتا غريباً واكتفت بمراقبة الثورة بوقار وسكينة.
السيدة وقد أُحيط بها،،، فتحت يديها إلى جانبيها ودارت حول نفسها دورة كاملة تنظر في أعين الثوار الغاضبين الحافين حولها في دائرة واسعة،،، عقدت حاجبيها وبدت حازمة لأبعد حد،،، نزعت من قدمها نعلها المطاطية الخضراء ورجعت إلى الوراء حافية،،، خطوة واحدة فقط،،، نفتت بقوة كثور هائج وضربت الأرض بقدمها،،، فر بعض الهنود الذين تجمعوا لمشاهدة الموقف فيما الخباز الإيراني ترك محله وفر راكضاً حتى القضيبية،،، نفخت كرشها وأغمضت عينيها بقوة،،، عصرت نفسها فخرجت منها صرخة لم يعرف أحد لها معنى لليوم "ياو ياو"،،، عصرت نفسها أكثر وأكثر فثارت من حولها غبرة،،، مع الغبرة رائحة ذفرة أشد من تلك الأسبوعية بكثير،،، القريبون منها خروا صرعى مباشرة بعد الصرخة،،، دائرة الإشعاع الملوث اتسعت حتى شملت كل "الذوادة" و"راس رمان" و"الحورة"،،، انتهت المعركة بانتصار السيدة انتصار باهر على الثوار فيما أطلق على تلك الحركة انتفاضة الـ "ياو ياو" فيما بعد.
مساء يوم المأساة ذاته، تركت السيدة حي "الذواودة"، بالرغم من انتصارها فيه، ودخلت لـ "رأس رمان" للمرة الأولى...
يتبع>>>
الود لكم،
حسن الخزاعي
روتردام المحروسة
<< Home