Creative Commons License
شكراً وزارة الإعلام، لست في حاجة لحماية حقوق الطبع.

زرنوق بحراني

هنا حيث تنحشر الأفكار والأحلام والخواطر

الأحد، سبتمبر 10، 2006

فلسفة

أوقاتي أوجاع وأزمنتي تقاس بالفرق بين هم وآخر.. ذات ألم ذات هم ذات قهر ذات نغص عندما كانت عقارب التفاهة تشير إلى تمام القرف تذكرت أني إنسان معجون من طين الهم الإلهي اللازب.. تذكرت أني لست إلا مجرد جوال محشو بالكمد حتى الامتلاء، جوال كباقي الأجولة الواقفة في طابور الغم الدنيوي تنتظر أن تُرمى في مزبلة التاريخ التي لا يعرف أحد لها مكانا حتى اللحظة.. تذكرت أن أصبح "فدياسا" آخر.. "فدياس" ذاك الذي نحت تمثالا للربة "أثينا" من ذهب وعاج وأنا الذي ينحت لآلهة الأوجاع كلها تمثالا من حروف بأزاميل أفكار بائسة.

بعد أن عدت من رحلتي إلى شرق تركيا، خرجت مساءً أبحث عن شيء أحيي به ليلي فلم أجد سوى مطعم فخم يرمي بظهره إلى أحد الفنادق الكبرى فيما نصب قبالته مسرحا صغيرا في الهواء الطلق، تعزف عليه إلحان كلاسيكية رائعة. خيوط المسيقى الناعمة تطوق المكان، تلف الأسماع بوشاح حريري ناعم.. تنسل إلى دواخلنا بهدوء لتستأصل الهم بمهارة جراح ثم تداوي الجراح حتى تندمل.

المطعم مزدحم جدا والطاولات كلها مشغولة غير أن المكان أعجبني وأردت الجلوس هناك مهما كلف الأمر حتى ولو تكلف بعض إحراج. أشرت للنادل فأقبل مسرعا وانحنى أمامي حتى كاد أن يركع.. وبعد أن انتصب من ركوعه كدت أن أصرخ "ربنا ولك الحمد" كما يفعل المبلغون في صلاة الجماعة إلا أني تداركت الأمر بسرعة عندما تذكرت بأني لست في أحد الجوامع!

فهمت ما كان يرمي إليه من وراء ركوعه فوضعت في يده ورقة نقدية وسألته إن كان بإمكانه أن يتدبر أمر إيجاد مكان أجلس فيه.. عاد إليّ بعد دقائق ليخبرني بأني إن كنت مصرا على الجلوس فلابد من أن أشارك أحدهم في طاولته.. هززت رأسي غير مستغرب من طرحه وأجبته أن لا بأس بذلك أبدا، بل ربما هو أفضل فعلى الأقل سأجد من أحادثه.

- على الطرف البعيد من المكان.. هناك عند الشلال الاصطناعي الصغير حيث يجلس عجوز ثمانيني.. بإمكانك أن تشاركه طاولته فهو يجلس هناك وحيدا كل ليلة.

شكرت النادل وانطلقت ميمما صوب العجوز.. وصلت عنده وحييته تحية مسائية.. حرك رأسه بغرور ارستقراطي دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليّ.. سألته إن كان لا يمانع أن أشاركه الطاولة فعاد وحرك رأسه مرة أخرى بالطريقة ذاتها وهو ينظر صوب عازفة الناي دون أن ينبس ببنت شفة.

حركت الكرسي إلى الوراء ثم جلست.. قرأت القائمة فأصبت بصدمة من الأسعار.. ابتسمت حتى لا يلاحظ العجوز فزعي وطلبت عصير برتقال طازج وقطعة حلوى بالرغم من أني كنت أتضور جوعا.. أخرجت علبة السجائر من جيبي وأشعلت واحدة ورحت أمجها بروحانية وهيام.. أسبح في الجو مع خيوط الدخان وألحان المسيقى.. أطير.. أتسامى.. أحلم.. أصلي فلحظة التدخين هي لحظة عبادة وتنسك.. هي أكثر لحظات المرء إيمانا.

أشعلتها دون أن أستأذن العجوز فقد وجدته فساءً لا يكترث لشيء ورائحة السيجارة أفضل من رائحته على كل حال.

مرت دقائق طويلة مججت خلالها أكثر من خمس سيجارات دون أن نتحدث في شيء.. أردت أن أفتح موضوعا معه.. فتأملت ملامحه بدقة.. شعر طويل وأشعث.. لحية مسبلة.. جبين عريضة.. عينان جاحظتان.. حتما هي ملامح فيلسوف خصوصا مع رائحة الزيتون الأسود المنبعثة منه،، فالأذكياء والعباقرة والمفكرين عادة ما يكونون منتنين ورائحة الزيتون هي أكثر الروائح شياعا بينهم.

وجدته يحدق بالعازفين كلا على حدة.. لحظتها كان ينظر إلى عازف الكمان وهو يحرك عصاه على الكمان بخفة وروعة.. هي لحظة مناسبة لفتح موضوع ولكن لابد من اختيار كلمات بها من العمق ما يتناسب وفكر الرجل وتجربته.. لحظة الصمت ما زالت مستمرة.. أتهيء لقطعها.. أصيغ الجمل في رأسي قبل أن أنطقها.. للفلاسفة مهابة إلا أني لن أكترث هذه المرة وسأتحدث حتى وإن بدا ما أقوله سخيفا.

نظرت إلى عينيه الجاحظتين مباشرة ثم قلت متسائلا بتحذلق:

- ترى هل يدرك هؤلاء المستمتعون بجمال الألحان عناء عصا الكمان وهي تتلف نفسها احتكاكا بأوتاره؟!

نظر إليّ بغرابة فظننت بأنه أعجب بما قلت.. ربما يظنني فيلسوفا مثله.. ربما أجد اسمي منشورا في إحدى مقالاته.. ربما وربما وربما.. رحت أحلم لحظتها بدخول عالم الفلاسفة من أوسع أبوابه وافترضت دون يقين بأن العجوز الجالس أمامي هو أحد أكبر الفلاسفة في هذه البلاد.

عيناه كانتا خاليتين من أي تعبير.. ينظر إليّ وكأنه لا يراني.. أنتظر منه إجابة إلا أنه لازال صامتا.. الصورة ذاتها.. صمت ونظرة خالية من أي تعبير.. أكاد أفقد صبري والعجوز لا يتحدث.. حرك رأسه جانبا.. لا بد وأنه على وشك أن يجيبني بشيء فالفلاسفة عادة لا يردون من دون طول تأمل وتفكير.. غير أنه لم يجبن بشيء بل قضّب جبينه وعقد حاجبيه ثم دس سبابته بأنفه!

فص الإصبع الأول أختفى داخل أنفه تماما إلا أن عملية الإيلاج لم تنته بعد.. الفص الثاني راح كما الأول.. لا بد وأن طرف إصبعه قد لامس مخه الآن.. لعلها طريقة تفكير مبتكرة!

حرك إصبعه داخل أنفه بإيروسية شبقة لدقائق طويلة.. كان كمن يبحث عن كنز أو يريد أن يصل ذروة من نوع ما.. لازال منهمكا في عملية البحث والإيلاج وأنا أترقب النتائج.. استل من داخله شيئا غريبا لم أكن أتخيل أن بإمكانه أن يستخرج ما هو بحجمه أو شكله أو حتى ألوانه وبمهارة صانعي الفخار حركه بين سبابته وإبهامه ثم رماه قذيفة بالستية عابرة للطاولات.

فقدت أثره بعد ثوان من انطلاقه لكني سمعت صوت ارتطامه الذي تزامن مع صمت عازفة الناي التي بدت وكأنها شرقت بشيء ما!

دفعت الحساب وسألت النادل عن العجوز فأخبرني بأنه أصم!!!

تحية ود،
حسن الخزاعي
استنبول المحروسة

الأربعاء، سبتمبر 06، 2006

يوميات رحلة

في آخر نقطة للشرق من تركيا وعلى مقربة من حدودها مع جورجيا بالتحديد وعلى ارتفاع أكثر من سبعة آلاف قدم وسط أدغال غابات فوق سفوح جبال سود لست أعرف لها اسما بعد، آخر ما كنت أتوقعه هو أن يعرف أحدهم بلدا اسمه البحرين، إلا أن توقعاتي لم تكن دقيقة يوما لتصدق الآن.

لا أحد يتكلم لغة أخرى غير التركية هنا وحدود معرفتي بهذه اللغة تنتهي عند العد لأربعة إلا أني وبعد جهد جهيد ومزيج من العربية والتركية والفارسية والإنجليزية ولغة الإشارات وأصوات شبيهة بتلك التي تصدر في بيوت الخلاء استطعت أن أفك طلاسم سؤال الرجل وأجبته وعلامات غريبة ترتسم على محياي، كنت كمن يتوقع صفعة بعد إجابة خاطئة غير أن ملامحي بدت له شبيهة بتلك التي تغزو الوجوه عند الحاجة لإخراج بعض الريح.. سألني إن كنت أحتاج حماما فحركت له رأسي كمروحة حائط هندية نافيا الحاجة لكنيف.

استجمعت ما أوتيت من قوة وتعاليت على خجلي، الذي لا أعرف سبب له ليومي هذا، ثم أجبته بأني من البحرين فعاجلني العجوز بابتسامة عريضة لم تكشف عن أسنانه بطبيعة الحال ذلك أن الجمع لا ينبغي مع العجائز من أمثاله فللرجل ضرس واحدة لا غير ولست أدري لأي غرض أبقاها… قهقه مرة أو مرتين ثم رد ببشاشة "بهريني قليون .. بهريني قليون".. هأهأت بحرقة مضوبة بشيء من غضب ثم دلفت تاركا الرجل غارقا في ضحكاته البلهاء.

ليست هذه أولى رحلاتي إلى تركيا ولكنها الأولى لهذه المنطقة في أقصى الشرق منها، جئتها على متن طائرة قادمة من أستنبول محشورا وسط جيش من الأتراك، أنا الغريب الوحيد بينهم. استنبول كانت حارة نوع ما يوم خروجي منها والأتراك مكنوزين كنز التمر على متن تلك الطائرة الصغيرة لكن ألطاف السماء أنقذتني فالأتراك لا رائحة كريهة لهم وليس لعجائزهم رائحة البسكويت العتيقة كتلك التي تميز عجائز أوربا.. فقط رائحة لبنة قديمة، معجنات طازجة وشيء من عبق جبنة طرية!

غير أن لي مؤاخذة على الأتراك، هي أن الواحد منهم لا يكاد يترك أنفه حتى ينخره نبشا طيلة النهاء وآناء الليل ولعمرك لست أدري ما يبحث عنه أولئك، فلو كانت إفرازات الجسم فلا بد وأن تنتهي بعد دقائق من النبش بهمة، غير أن الرجل إلى جانبي ظل مثابرا على نبش أنفه طيلة الرحلة التي استمرت قرابة الساعتين بل أني التقيته مرة أخرى في منطقة استلام الحقائب ولم يزل نابشا أنفه وعند خروجي من المطار وعلى ضفة الشارع أنتظر سيارة أجرة كان الرجل كما كان دائما إصبعه في أنفه لا تفارقه ولا يفارقها.

المضيفة على طيران أطلس كان لها بعض حظ من الإنجليزية فتجاذبت معها أطراف الحديث وعندما وجدتها مثقفة شيئا ما استرسلت معها في الحديث عن الطابع الخاص للأتراك والمفقود تماما في أستنبول المتغربة حد القرف فاستنكرت ذلك هي أيضا وأخبرتني بأن الشرق مختلف كثيرا.. في غمار حديثنا سألتني عن الكنى وبأنها تعرف بأن أي عربي لابد وأن له كنية فسألتني عن كنيتي فأخبرتها بأني أدعى "أبا بيان".. تغيرت ملامح وجهها فجأة وبدت لي وكأنها على وشك أن تبصق في وجهي فانكمشت كطفل لا يعرف سبب غضب الكبار منه... بعدها بأيام عرفت بأن "بيان" بالتركية تعني "بنت" أو "بنات" والمضيفة اللطيفة ربما أساءت فهمي وظنت بأني أتحرش بها وأخبرها بأني "أبو بنات"!!!

تركيا أتتورك تنتهي هنا، فالبشر ذوي الملامح الأوربية والشعور الشقراء والعيون الملونة متدينون في الغالب والحجاب لباس غالبية النساء هنا حتى أن بعضهن يرتدين "تشادور" أسود يغطيهن من رؤسهن لأخمص الأقدام.. المساجد والجوامع كثيرة جدا، ربما أكثر من البيوت وتجدها مشيدة على سفوح تلك الجبال في مناطق شاهقة جدا لا تملك إلا أن تتساءل كيف استطاعوا بنائها على ذلك العلو أو من هو ذلك المؤمن حد التخمة الذي سيتسلق جبلا ليصلي في مسجد هناك بالرغم من عدم وجود طرق معبدة أو حتى سالكة له.


الجوز والشاي والبندق هو ما يزرعه الناس هنا ومنذ وطئت قدماي هذه الأرض وأنا أشعر بأني سنجاب صغير فالجوز والبندق في كل شيء، فالحلويات بالندق والجوز والمشويات لا بد وأن تحوي شيء من اللوز والبندق أيضا.. التذكاريات هي الأخرى لابد وأن تحمل في أحد جوانبها حبة بندق أو كوز ذرة.

قبل أن أقفل مقالي هذا لابد وأن أعترف بأني ذرفت أدمعا حارة عندما زرت إحدى المدن الواقعة فيما قبل الحدود، حيث اضطررت لزيارة صومعة مشيدة على ارتفاع آلاف الأقدام (ومرة أخرى لست أدري لم يبن المؤمنون مساجدهم، كنائسهم، أديرتهم وصوامعهم فوق سفوح الجبال حيث لا يسهل الوصول إليها!).. الطريق كانت بعرض ثلاثة أمتار تقريبا والجبل منحدر بشدة والسائق اللعين لم يرع فيّ إلا ولا ذمة فقد كان يقود السيارة بسرعة جنونية والأحجار تتساقط على جانب الطريق فيما هو يعدو بنا.

السائق كان على مشارف السبعين إلا أنه بصحة جيدة بالرغم من كونه مدخنا ككل الأتراك هنا، فالأطفال والشباب والنساء والعجائز والمرضى،،، الأحياء والأموات حتى كلهم مدخنون. أسناني تصطك وأطرافي أصيبت بخدر غريب وعيناي فقدت اتزانهما... رحت أتمتم بكلمات لا معنى لها.. ودعت الأهل والأصدقاء والأحبة.. نفحة إيمان لفحتني فيما حسبته آخر لحظات حياتي... تلوت سورة التوحيد وثلاث سور قصار أخرى.. أردت قراءة المزيد إلا أني اكتشفت ساعتها بأن هذا كل ما أحفظه من القرآن فأعدتهن جميعا قرابة المائة مرة أو أكثر.. عندما بلغت تلك الصومعة سببت كل من شارك في بنائها وقررت أن تكون تلك آخر زيارة أقوم بها لدار عبادة أيا كانت!


تحية ود،
أوزنغول - تركيا المحروسة
حسن الخزاعي