Creative Commons License
شكراً وزارة الإعلام، لست في حاجة لحماية حقوق الطبع.

زرنوق بحراني

هنا حيث تنحشر الأفكار والأحلام والخواطر

الأربعاء، سبتمبر 06، 2006

يوميات رحلة

في آخر نقطة للشرق من تركيا وعلى مقربة من حدودها مع جورجيا بالتحديد وعلى ارتفاع أكثر من سبعة آلاف قدم وسط أدغال غابات فوق سفوح جبال سود لست أعرف لها اسما بعد، آخر ما كنت أتوقعه هو أن يعرف أحدهم بلدا اسمه البحرين، إلا أن توقعاتي لم تكن دقيقة يوما لتصدق الآن.

لا أحد يتكلم لغة أخرى غير التركية هنا وحدود معرفتي بهذه اللغة تنتهي عند العد لأربعة إلا أني وبعد جهد جهيد ومزيج من العربية والتركية والفارسية والإنجليزية ولغة الإشارات وأصوات شبيهة بتلك التي تصدر في بيوت الخلاء استطعت أن أفك طلاسم سؤال الرجل وأجبته وعلامات غريبة ترتسم على محياي، كنت كمن يتوقع صفعة بعد إجابة خاطئة غير أن ملامحي بدت له شبيهة بتلك التي تغزو الوجوه عند الحاجة لإخراج بعض الريح.. سألني إن كنت أحتاج حماما فحركت له رأسي كمروحة حائط هندية نافيا الحاجة لكنيف.

استجمعت ما أوتيت من قوة وتعاليت على خجلي، الذي لا أعرف سبب له ليومي هذا، ثم أجبته بأني من البحرين فعاجلني العجوز بابتسامة عريضة لم تكشف عن أسنانه بطبيعة الحال ذلك أن الجمع لا ينبغي مع العجائز من أمثاله فللرجل ضرس واحدة لا غير ولست أدري لأي غرض أبقاها… قهقه مرة أو مرتين ثم رد ببشاشة "بهريني قليون .. بهريني قليون".. هأهأت بحرقة مضوبة بشيء من غضب ثم دلفت تاركا الرجل غارقا في ضحكاته البلهاء.

ليست هذه أولى رحلاتي إلى تركيا ولكنها الأولى لهذه المنطقة في أقصى الشرق منها، جئتها على متن طائرة قادمة من أستنبول محشورا وسط جيش من الأتراك، أنا الغريب الوحيد بينهم. استنبول كانت حارة نوع ما يوم خروجي منها والأتراك مكنوزين كنز التمر على متن تلك الطائرة الصغيرة لكن ألطاف السماء أنقذتني فالأتراك لا رائحة كريهة لهم وليس لعجائزهم رائحة البسكويت العتيقة كتلك التي تميز عجائز أوربا.. فقط رائحة لبنة قديمة، معجنات طازجة وشيء من عبق جبنة طرية!

غير أن لي مؤاخذة على الأتراك، هي أن الواحد منهم لا يكاد يترك أنفه حتى ينخره نبشا طيلة النهاء وآناء الليل ولعمرك لست أدري ما يبحث عنه أولئك، فلو كانت إفرازات الجسم فلا بد وأن تنتهي بعد دقائق من النبش بهمة، غير أن الرجل إلى جانبي ظل مثابرا على نبش أنفه طيلة الرحلة التي استمرت قرابة الساعتين بل أني التقيته مرة أخرى في منطقة استلام الحقائب ولم يزل نابشا أنفه وعند خروجي من المطار وعلى ضفة الشارع أنتظر سيارة أجرة كان الرجل كما كان دائما إصبعه في أنفه لا تفارقه ولا يفارقها.

المضيفة على طيران أطلس كان لها بعض حظ من الإنجليزية فتجاذبت معها أطراف الحديث وعندما وجدتها مثقفة شيئا ما استرسلت معها في الحديث عن الطابع الخاص للأتراك والمفقود تماما في أستنبول المتغربة حد القرف فاستنكرت ذلك هي أيضا وأخبرتني بأن الشرق مختلف كثيرا.. في غمار حديثنا سألتني عن الكنى وبأنها تعرف بأن أي عربي لابد وأن له كنية فسألتني عن كنيتي فأخبرتها بأني أدعى "أبا بيان".. تغيرت ملامح وجهها فجأة وبدت لي وكأنها على وشك أن تبصق في وجهي فانكمشت كطفل لا يعرف سبب غضب الكبار منه... بعدها بأيام عرفت بأن "بيان" بالتركية تعني "بنت" أو "بنات" والمضيفة اللطيفة ربما أساءت فهمي وظنت بأني أتحرش بها وأخبرها بأني "أبو بنات"!!!

تركيا أتتورك تنتهي هنا، فالبشر ذوي الملامح الأوربية والشعور الشقراء والعيون الملونة متدينون في الغالب والحجاب لباس غالبية النساء هنا حتى أن بعضهن يرتدين "تشادور" أسود يغطيهن من رؤسهن لأخمص الأقدام.. المساجد والجوامع كثيرة جدا، ربما أكثر من البيوت وتجدها مشيدة على سفوح تلك الجبال في مناطق شاهقة جدا لا تملك إلا أن تتساءل كيف استطاعوا بنائها على ذلك العلو أو من هو ذلك المؤمن حد التخمة الذي سيتسلق جبلا ليصلي في مسجد هناك بالرغم من عدم وجود طرق معبدة أو حتى سالكة له.


الجوز والشاي والبندق هو ما يزرعه الناس هنا ومنذ وطئت قدماي هذه الأرض وأنا أشعر بأني سنجاب صغير فالجوز والبندق في كل شيء، فالحلويات بالندق والجوز والمشويات لا بد وأن تحوي شيء من اللوز والبندق أيضا.. التذكاريات هي الأخرى لابد وأن تحمل في أحد جوانبها حبة بندق أو كوز ذرة.

قبل أن أقفل مقالي هذا لابد وأن أعترف بأني ذرفت أدمعا حارة عندما زرت إحدى المدن الواقعة فيما قبل الحدود، حيث اضطررت لزيارة صومعة مشيدة على ارتفاع آلاف الأقدام (ومرة أخرى لست أدري لم يبن المؤمنون مساجدهم، كنائسهم، أديرتهم وصوامعهم فوق سفوح الجبال حيث لا يسهل الوصول إليها!).. الطريق كانت بعرض ثلاثة أمتار تقريبا والجبل منحدر بشدة والسائق اللعين لم يرع فيّ إلا ولا ذمة فقد كان يقود السيارة بسرعة جنونية والأحجار تتساقط على جانب الطريق فيما هو يعدو بنا.

السائق كان على مشارف السبعين إلا أنه بصحة جيدة بالرغم من كونه مدخنا ككل الأتراك هنا، فالأطفال والشباب والنساء والعجائز والمرضى،،، الأحياء والأموات حتى كلهم مدخنون. أسناني تصطك وأطرافي أصيبت بخدر غريب وعيناي فقدت اتزانهما... رحت أتمتم بكلمات لا معنى لها.. ودعت الأهل والأصدقاء والأحبة.. نفحة إيمان لفحتني فيما حسبته آخر لحظات حياتي... تلوت سورة التوحيد وثلاث سور قصار أخرى.. أردت قراءة المزيد إلا أني اكتشفت ساعتها بأن هذا كل ما أحفظه من القرآن فأعدتهن جميعا قرابة المائة مرة أو أكثر.. عندما بلغت تلك الصومعة سببت كل من شارك في بنائها وقررت أن تكون تلك آخر زيارة أقوم بها لدار عبادة أيا كانت!


تحية ود،
أوزنغول - تركيا المحروسة
حسن الخزاعي