Creative Commons License
شكراً وزارة الإعلام، لست في حاجة لحماية حقوق الطبع.

زرنوق بحراني

هنا حيث تنحشر الأفكار والأحلام والخواطر

الأربعاء، مايو 03، 2006

ظلال الألم (قصة ساخر صنعته المأساة)

أي حظ عاثر أغبر هذا الذي رماني في هاته الجثة المقرفة وحكم عليّ بالانتظار داخلها لريثما يتفرغ السيد عزرائيل ويخلّص إضبارة أوراقي المرمية على مكتبه الفاره منذ ثلاث عقود.

أواسط سبعينيات القرن المنصرم أبصرت النور لأول مرة.. ولدت لعائلة فقيرة في بيت حُشرت به ثلاث عوائل تعداد أفرادها معا أربع عشر،،، منزلنا العتيق على أطراف حي رأس الرمان في المنامة القديمة كان بمساحة 12*25 قدما فقط، ولست أدري كيف أمكن لأربعة عشر نفسا أن تُحشر في علبة السردين تلك. في الدور الأرضي كنا نحن، أمي وأنا وإخوتي الثلاثة وجدي وجدتي وفي الدور الأول كان عمي مع زوجته وأولاده الأربعة.

لم تعرف جدران ذلك المنزل لون الطلاء قط وظلت أصابع بنائيه محفورة في الإسمنت على شكل خطوط طولية متموجة كالأفاعي، فيما كان خارجه من الحجر الأبيض. نافذة يتيمة هي التي كانت تطل على الشارع، تلك كانت نافذة الغرفة التي يسكنها جدي العجوز والذي أخلاها لنا بعد سنوات عندما تفرغ عزرائيل من مشاغله وخلص أوراقه التي ظلت تنتظر توقيعه المبارك أكثر من ثمانين عاما قضى آخرها طريح فراشه.

كتلة ظلام مصمتة تلك التي كنا نعيش بها، لا يكاد يقطعها سوى بعض شفرات من ضوء مصباح وحيد معلق وسط المنزل الذي طالما وجدته مرعبا كلما تراقصت ظلالنا العملاقة على جدرانه العارية.. لست أذكر كم مرة نمت خائفا والدموع تغسلني فقد ضيعت الحساب بعد المرة الألف.. بالرغم من أني لم أكن يتيما إلا أني قضيت الطفولة كلها كذلك، فوالدي يعمل خارج البحرين ويرجع لنا كل شهر مرة، عندما يصرف فيها نصف راتبه لشراء تذاكر رحلته تلك والنصف الآخر هدايا بسيطة ربما كان يحاول بها تعويض غيابه المستمر عنا أو لربما كانت من أجله هو لا من أجلنا نحن، فقد كانت فرحته أكبر منا عندما يأخذنا بين ذراعيه ويعطيني تلك الأشياء الصغيرة (تفاصيل صغيرة هي التي لا أذكرها إلا أني أحسبه بكى مرة أو مرتين).. أما باقي أيام الشهر فنقضيها أنا وإخوتي كاليتامى تماما..


كل عذاباتي مسببها واحد تقريبا، هو هذه الذاكرة التي لُعنت بها.. لا يمضي عليّ كثيرا حتى تعود وتصلبني أمام صور مؤلمة يرجع عمرها إلى أكثر من ثمانية وعشرين عاما، ربما لم تكن أسناني اللبنية اكتملت بعد .. صورة أمي التي لم تفتأ تبكي وحدتها كل ليلة، جالسة عند رأسي معتقدة أن أفراخها قد ناموا، ولازلت أسمع صوت أختي الوحيدة وهي تنشب باكية لبكاء أمها، عبثا تحاول كتم أنينها الكئيب الذي لازالت أحس بحرارة سكاكينه تقطع في قلبي.

البيت كان خال من الأثاث تقريبا عدا مناماتنا الإسفنجية ومسندين محشوين بالقطن، لم يكن عندنا هاتف أوتلفاز بل ولا حتى سخان ماء وأذكر تماما كيف كنت أرتعش من البرد في الشتاء تحت صقيع الماء المنصب من الصنبور.. أبكي رافضا الاستحمام وأمي تحاول يائسة إقناعي بأن الأمر سهل وبأن الماء فاتر.. أناملي الصغيرة كانت تزرق ونهر دموعي يضيع وسط صبات الماء المتثلجة من طست معدني هو في الأصل إناء يستخدم لصناعة الحلوى البحرانية ولست أدري كيف أصبح بعد ذلك وعاء ماء للاستحمام.

عندما تكون فقيرا وسط فقراء لا يغدو الأمر مشكلا أبدا، فجل عوائل الحي كانت مثلنا إن لم تكن كلها عدا واحدة أو اثنتين إحداهما عائلة خال أبي المترفة.. لم أسمع يوما أمي تشكو فقرنا أو تتبرم من تلك الحال فنحن كالآخرين ولربما كنا أفضل من كثير منهم..
خمسون فلسا كانت مصروفي اليومي عند خروجي وأخي قاصدين مدرسة الرشيد الابتدائية وسط دهاليز أزقة الحورة، وكان عليّ أن أختار بين قنينة مشروب غازي أو سندويشة رخيصة من تلك التي تباع في مقاصف المدارس ومرات كثيرة كنت أتبادل الأدوار مع أخي الأكبر فأشتري المشروب وهو يتكفل بالسندويشة – أو العكس - ثم نقتسمهما فيما بيننا.
رتم الحياة الممل استمر كما هو حتى تعرضت لذلك الحادث الذي غير نظرتي لهذا العالم تماما، ففي إحدى المرات عند عودتي من المدرسة وقت الظهيرة والشمس القاسية تتلذ بشي أجسادنا الضئيلة، تعرضت لضربة قوية من حمار حساوي ضخم يجر من ورائه عربة عليها براميل كيروسين، كانت الضربة على الرأس مباشرة فأصبت بشيء ما في شبكية العين وفقدت البصر تماما...

يتبع>>>


يومكم سعيد،
حسن الخزاعي
روتردام المحروسة