Creative Commons License
شكراً وزارة الإعلام، لست في حاجة لحماية حقوق الطبع.

زرنوق بحراني

هنا حيث تنحشر الأفكار والأحلام والخواطر

الأحد، أبريل 02، 2006

ضائع في الترجمة

الورقة... هذه العاهرة الجميلة، عشقتها حد الكره، حد الإحساس بندم قاتل بعد كل مرة أطأها بقلمي، ندم ينهشني بعد أن أرمي عليها حروفي وأقذف فيها أفكاري،،، ترى كم مرة أقسمت أن لا أعود؟! لست أدري، غير أني في كل مرة كنت أعود إليها مطئطئا رأسي كجرو صغير، أعود إليها علها تقبل بي، تلفني، تغطيني، تدفئني، تحتضنني ثم تسحقني، تكتبني ومن ثم تتلوني...

العطلة الأسبوعية، أجراس الكنائس، أصوات القطارات وصمت ثم صمت ثم صمت لا يتبعه إلا صمت،،، "ضائع في الترجمة"، غريب في بلاد ليس له فيها أحد، لا يجد من ينظر إليه، من يكلمه أو حتى من يلقي عليه تحية!

البرد الشديد لم يمنعن من الجلوس على الشرفة هذا الصباح، ألعق ثفل فنجاني، وبشراهة محروم، أمج دخان سيجارة ممعّجة كانت في جيب معطفي من البارحة عندما عدت للمنزل مرنخّاً بماء المطر، مغسول من كاهلي لكاحلي كشراع سفينة ضلت طريقها وسط اللجة، كفرخ طائر ظلت السماء تنز عليه حتى سغسغ زغبه... إلا أني لم أحتمل البقاء هناك طويلا، فالشرفة سجن آخر ينهب سنوات العمر كما تنهبها الوحدة، فيما السيجارة تُحرق باقيها،،، خرجت ميمما صوب حديقة صغيرة تستند بظهرها إلى محطة القطار، عليّ أجد لي متنفساً هناك...

جلست على أحد الكراسي الخالية وأخرجت من جيب معطفي الطويل، رواية أقرأ فيها وعلبة تبغ لففت منها سيجارة، بعد لحظات جلس على الطرف البعيد من الكرسي رجل عجوز، طويل ونحيف كدقل شاهق، كان متزنرا بقميصه وبين وسطاه وسبابته ترتعش سيجارة احترق ثلثاها،،، وجهه أبيض ممعّج، كسيجارتي تلك تماما، وتفوح منه رائحة بسكوت قديم وشيء من بقايا جبنة عتيقة وقديد مالح... لم ألق إليه بالاً ولم ألتفت صوبه، إلا أن الحروف العربية على صفحات الرواية التي كنت أقرأ فيها، أثارت فضوله أو لربما استفزته فأخذ يقترب مني رويدا رويدا حتى توسط الكرسي،،، رفعت رأسي أنظر إليه فتظاهر بالنظر إلى جهة أخرى،،، عدت أقرأ،،، ظل رأسه كان يشرئب على صفحة كتابي،،، يكبر ويكبر،،، يقترب أكثر،،، ولج الصفحة الأخرى... باغته بنظرة سريعة فالتفت نحو الجهة الأخرى وكأنه غير مكترث لوجودي!!! مججت سيجارتي بحنق، وعدت للقراءة... اقترب مني أكثر،،، كاد جسمه يلاصقني،،، رائحة البسكوت القديمة تكاد تخنقني، ظله غطى الصفحة كلها،،، رميته بنظرة ازدراء،،، لم يلتفت صوب جهة أخرى هذه المرة بل فغر شدقيه وتثاءب،،، كشف عن فاه لم تقف فيه ولا حتى ضرس واحدة فيما انداح لسانه للخارج كسجادة حمراء طويلة،،، خُيّل إليّ وكأنه ضب أدرد ضخم فغر فاه ليبتلعني،،، ناست في خاطري فكرة شريرة،،، أن أتف في رقبته وأطفئ عقب السيجارة في أذنه ثم أهرب غير أني آثرت الابتعاد عنه دون مشاكل.

بحثت في الحديقة عن كرسي آخر لأهرب من ذلك الفساء النتن، فلم أجد أي كرسي خال فجلست على واحد كانت تشغله عجوز قصيرة لا بد وأن مدة صلاحيتها انتهت منذ أمد بعيد، بينها وبين القبر عطسة ليس إلا،،، كانت رائحة البسكوت القديم تفوح منها هي الأخرى،،، كل العجائز هنا، تفوح منهم تلك الرائحة!!! تحت قدمها أقعى على مؤخرته كلب صغير بشع وأخذ يهر دون توقف،،، ألقيت عليها التحية فرازتني بنظرة، قاستني طولا وعرضا ثم لم ترد إليّ تحيتي!!! كلبها اللعين لم يكف عن مضايقتي، نبح عليّ، لعق حذائي ثم نفض الماء عن جسمه وبللني... أقسمت أن لا أترك الكرسي هذه المرة وأن أبقى مزروعا فيه مهما كلف الأمر،،، نظرت للعجوز بطرف عيني، نظرة شبقة ورسمت على شفتي ابتسامة خبيثة فطأطأت رأسها خجلا كعذراء في ليلة دخلتها،،، ضحكت ضحكة شريرة بصوت منخفض إلا أني تعمدت أن تسمعني،،، ضمت ركبتيها واحتضنت شنطة يدها السوداء،،، انسحبت للطرف البعيد من الكرسي، انكمشت كما السيدة ملعقة (رض) وظلت تراقبني بحذر وتوجس... رفعت رأسي فجأة،،، حولت عيني،،، نظرت إليها، حركت لها حاجباي، نضنضت لساني كأفعى سامة، ابتسمت لها ابتسامة خرقاء ثم خاطبتها بالعربية وبلهجة بحرانية قحة "شحوالش حاجية؟!"

اضطربت،،، صرخت،،، لملمت حاجياتها،،، ترعبشت على الكرسي وفرت هاربة وهي تمتم بأشياء لم أفهم منها شيئا.


تحية ود،
حسن الخزاعي
روتردام المحروسة